رغم الجودة العالية الإدارية والطبية والتمريضية في #مستشفى الكرنتينا الحكومي، فرضت منذ مدّة قريبة هجرة 4 ممرّضات من قسم العناية الفائقة لحديثي الولادة والأطفال الخدَّج (الذين يولدون قبل أسابيع أو بضعة أشهر من موعد الولادة) طلباً لتحصيل لقمة عيش كريم خارج لبنان، صعوبة إيجاد بديل لهنّ، والتقيّد بقرار صعب قضى باستقبال 6 أطفال في “بيوت الزجاج” بدلاً من 12 حالة، لأن عدد الممرّضات سيكون محدوداً في القريب العاجل.
يسري مفعول القرار أيضاً على قسم العناية الفائقة التابع لقسم طب الأطفال في المستشفى (من عمر شهرين الى 14 ربيعاً)، وفقاً لما ذكره رئيس قسم طبّ الأطفال في المستشفى الدكتور روبير صاصي بحرقة كبيرة لـ”النهار”،” مشيراً الى “أننا سنوفر العناية الفائقة لسريرين من أصل 4 أسرّة، وذلك بسبب مغادرة الممرّضات لبنان طلباً للعمل في الخارج، ويُعدّ هذا الأمر خطيراً لأنه لا يمكن استبدالهنّ بسهولة”.
أزمة الممرضات
ما سبب هذا القرار؟ الجواب بسيط وفقاً لصاصي، لأن حالة المريض في أيّ عناية فائقة تفرض متابعة دقيقة على مدار الساعة، ما يجعل ممرّضة واحدة في مهمّة متابعة 4 مرضى مثلاً، وهذا يفرض الحدّ من استقبال المرضى الصغار لنتمكن في ظل العدد المحدود للممرّضات من الاهتمام الدقيق بالمريض”.
تصريح لا يبشّر بالخير في هذا الوطن المنكوب. يهدّد الواقع المأسوي المترجم بهجرة الممرّضات وصعاب أخرى، فرصة الحياة لهذه الفئة من الصغار، رغم أن وزارة الصحّة تغطّي 90 في المئة من تكاليف الفاتورة الاستشفائية في المستشفى، فيما ينكبّ رئيس مجلس إدارة المستشفى الدكتور ميشال مطر والمديرة العامة للمستشفى كارين صقر صليبا على القيام بدور استثنائي وفاعل جداً في توفير الجودة العالية جداً في كل أقسام المستشفى، مع حرصهما على توفير تغطية ما بقي، إذا ما عجز أولياء المريض عن توفيره، من خلال دعم جمعيات عدّة منها على سبيل المثال لا الحصر جمعية فرسان مالطا وصندوق دعم المريض
في جمعية ASSAMEH – Birth & Beyond، الذي يبادر بمؤازرة مؤسّسه الدكتور روبير صاصي إلى توفير بعض الدعم أيضاً لرواتب الجسم الطبّي والتمريضي في المستشفى.
نحن في قسم العناية الخاصة التابع لقسم للأطفال (على يمين قسم العناية الخاصّة لحديثي الولادة والخدّج) تستعدّ الصغيرة “كاي”، لمغادرة المستشفى مع والديها فادي وريتا ديب. ينظر الوالد فادي الى زوجته ريتا وهي تزوّدها بالحليب في زجاجة الرضاعة بفرح كبير. لم يترك تلك الورود الحمراء من يديه، لأنه يعتبرها بشير خير يحمله معه عند مغادرة المستشفى اليوم، يبادر قائلاً: “وُلدت كاي في الشهر السابع، ما فرض بقاءها في الحاضنة في العناية الفائقة مدّة شهرين. بعد خروجها، أصيبت بإلتهاب رئوي، ما فرض مجدّداً دخولها العناية الخاصّة التابع لقسم طبّ الأطفال في المستشفى”.
قاطعته زوجته ريتا “أم كاي” قائلة: شعرنا بأن الدكتور صاصي والطبيبة المناوبة المتخصّصة في العناية الفائقة في قسم العناية الدكتورة بيا كيوان وفريق الممرّضات أولوا اهتماماً خاصاً بابنتنا كأنّها فرد من عائلتهم. كنا نتصل بهم مرّات عدة في اليوم لنطمئنّ على كاي. كانوا يجيبوننا بدقة وفرح كبير واهتمام كبير…”.
ودّعنا كاي متمنّين لها ولوالديها سنة مفعمة بالأمل والصحّة… دخول قسم العناية الفائقة لحديثي الولادة والأطفال الخدّج فرض علينا ارتداء لباس خاصّ.
ذكرت كيوان لـ”النهار”، “أننا نتابع هنا كل حالة على حدة من خلال مراقبة أجهزة التنفس ومستوى الأوكسجين لكل منها، ودقات القلب، ونجري فحصاً للدم للتدقيق في تفاصيل مهمّة، وصولاً الى توفير الغذاء عبر المصل والانتقال التدريجي الى زجاجة رضاعة الحليب”.
90% لبنانيون
كيف يصل الصغار الى هذا القسم؟ أجاب صاصي وبدا التأثر عليه مردّداً أنه “جاءنا قبل أسبوعين 12 طفلاً من حديثي الولادة، قدموا كلهم من مستشفى واحد لأن ذويهم عجزوا عن تكبّد تكاليف المستشفى…”.
“يولد بعض الأطفال قبل أوانهم بوزن ضعيف لا يتعدّى 700 غرام، ما يستدعي متابعتهم في هذا القسم ضمن “بيوت زجاجية” تُعرف بالحاضنة، قال صاصي. وأكمل مشيراً الى أنه “لا يمكنهم أن يغادرونا قبل أن يصل وزنهم الى كيلوغرامين، وهذا يفرض عناية تمتدّ الى شهرين”.
يضيف ِأن “غالبية الرضّع هنا هم ذكور باستثناء هذه الصغيرة هنا”، مع إشارته الى التوائم الثلاثة هناك، “واحد تعافى، الآخر على طريق التعافي فيما الثالث يحتاج الى بعض الوقت”.
خرجنا من القسم لنجلس مع الدكتور صاصي، الذي صارحنا بالواقع الصعب وهو يحبس دموعه قائلاً: “لا تتوقف الاتصالات بنا لإدخال حديثي الولادة أو أطفال الى قسمَي العناية في طبّ الأطفال، فيما نضطر الى الاعتذار بسبب نقص الممرّضات وهجرتهن”.
وقال: “يتدهور الوضع من شهر الى آخر. أصبحنا اليوم نستقبل من 90% الى 95% من أطفال لبنانيين، فيما سجّل العام الماضي دخول 70 في المئة من أطفال غير لبنانيين و30 في المئة من اللبنانيين. منذ أسبوع، إعتذرنا عن استقبال 4 الى 5 حالات لأطفال لأن مغادرة الممرّضات فرضت علينا هذا القرار…”.
الوضع صعب جداً
كيف يصل الأطفال الى المستشفى؟ أجاب بحسرة قائلاً: “يصلون بظروف صعبة جداً، متعبين، حالتهم الصحّية متأرجحة بين السيّئ والأسوأ. يصلون الى المستشفى من مناطق بعيدة في سيّارة إسعاف غير مجهّزة ببيت زجاجي وممرّضة لمتابعة وضع الصغير”.
وهل للمستشفى سيارة إسعاف مجهّزة؟ قال: “نعم. إن سيارة الإسعاف تحتاج الى ممرّضة لمتابعة حال الطفل، ما يجعلنا نقع في أزمة هجرة الممرّضات الى الخارج”.
ختاماً، شدّد صاصي على أنه “طيلة عملي طبيب أطفال منذ 42 عاماً، لم أشهد وضعاً متردّياً مثل ما نمرّ فيه اليوم”، مشيراً الى أن “الأزمة تطال الأطبّاء أيضاً والأطبّاء المتمرّنين في طبّ الأطفال من الجامعة اللبنانية الذين تركوا جامعتهم بسبيب وصعها الصعب إلى وجهة أخرى ربّما خارج لبنان…”.
وعبّر رئيس مجلس إدارة المستشفى الدكتور ميشال مطر لـ”النهار” عن أسفه الشديد لأن “التداعيات الكارثية لانفجار 4 آب على المستشفى كانت السبب الجوهري لدعم المستشفى، الذي عانى الإهمال خلال الحرب الأهلية”، مشيراً الى أنه “أول مستشفى حكومي في لبنان” مثنياً على جهود الدول الصديقة في ترميم المستشفى بعد فاجعة 4 آب.
وتوقف عند الصعاب التقنية التي تواجه الإدارة “في توفير تكاليف دفع الأدوية، وصيانة المعدّات ودفع أتعاب العاملين فيها بالفرش دولار، التي تغطيها أخيراً جمعيات أممية بعدما كنا نؤمّنها من المخزون المالي لدينا”.
أمّا المديرة العامة للمستشفى كارين صقر صليبا فتحدّثت “عن أهمية تأسيس قسم طبّ الأطفال في نهاية عام 2015، وقسمي العناية الفائقة فيه”، مشيرة الى أن “الأطفال يصلون من المناطق أكثر من أيّ وقت مضى في ظروف صعبة الى الطوارئ، ما يستدعي استنفار الطاقم الطبّي لإعطائهم الإسعافات الأولية لأن غالبية الأطفال اللبنانيين الذين نرعاهم اليوم هم من الطبقة المتوسّطة العاجزة عن تكبّد تكاليف الفاتورة الاستشفائية الباهظة في القطاع الخاص”.
وعدّدت الصعاب بعد إنفجار 4 آب مشيرة الى أننا “نواجه أزمة هجرة الأطبّاء في قسم الأطفال مثلاً بسبب تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان”، مشيرة الى أنه “يبقى هنا طبيب واحد في اختصاص محدّد في طبّ الأطفال لمتابعة سير العمل، إضافة إلى أزمة مغادرة الممرّضات الى الخارج، مروراً بتغطية توفرها الجمعيات الأممية لتكاليف رسوم المازوت في المستشفى، ولا سيّما لتشغيل المولدات الأربعة للمستشفى، التي لا يمكن إلّا أن تزوّد بالطاقة على مدار النهار، بكمّية 3000 ليتر أسبوعياً أي بمعدل 15 ألف ليتر شهرياً، مع العلم بأن تكلفة الطن الواحد تصل الى 610 دولارات أميركية”.