يجد البعض بأنّه قبل التفاوض على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الإسرائيلي، أو العودة الى طاولة المفاوضات غير المباشرة برعاية أممية ووساطة أميركية، لا بدّ من تحديد المنطقة المتنازع عليها أولاً، سيما وأنّه بعد جلوس الوفد اللبناني العسكري على طاولة الناقورة، فَرَض وجود منطقة جديدة متنازع عليها تقع بين الخطين 23 و29، أُضيفت الى المثلث البحري الذي يقع بين الخطين 1 و23 المودعين لدى الأمم المتحدة، الأول من قبل العدو الإسرائيلي منذ العام 2010، والثاني من قبل لبنان على أنّه خط حدوده البحرية منذ 1-10-2011. فيما يطرح الوسيط الأميركي الحالي آموس هوكشتاين توزيع موارد الحقول النفطية المكتشفة في المنطقة الحدودية ككلّ، وفق إتفاق ممنهج وآلية معيّنة لتقاسم الأرباح بين بلدين عدوّين، من دون مشاكل أو عملية تطبيع. كما يطرح أن يعتبر لبنان حدوده البحرية تنتهي عند الخط 23، هذا الخط الذي لا يعترف به “الإسرائيلي”، لكي يقوم بإقناع هذا الأخير بالقبول به، قبل صياغة الإتفاق بين الجانبين بوساطة أميركية لترسيم الحدود أو تقاسم موارد الحقول النفطية في المنطقتين المتنازع عليهما.
غير أنّه قد فات الكثيرين معرفة بأنّ العدو الإسرائيلي لا يحتاج الى مواهب هوكشتاين التفاوضية لكي يعترف بالخط 23. وهذا على الأقلّ ما تُظهره خريطة “وزارة الطاقة الإسرائيلية” التي وضعت منذ سنوات، الخط 23 ضمن البلوكات المحدّدة لها، على ما يكشف السفير بسّام النعماني المتابع لملف ترسيم الحدود البحرية والبريّة. ويوضح بأنّه إذا جرى تفحّص خريطة “حقوق النفط” الصادرة عن “دائرة النفط والغاز في وزارة الطاقة للعدو الإسرائيلي”، يتبيّن أنّ البلوكات البحرية التي تقسم المنطقة الإقتصادية الخالصة شرق الساحل الفلسطيني هي في معظمها مربّعات متساوية الحجم، إلّا في حالة واحدة، وهي الحدود البحرية الفاصلة مع لبنان!!! وتوجد أيضاً بعض الإستثناءات في هذه الخريطة، حيث يُصبح مربع البلوك البحري مستطيلاً، فتصبح خطوط هذا المستطيل متعرّجة لكي يحيط بآبار “الغاز الإسرائيلية” المكتشفة والتي تمّ تحديد مواقعها، والتي أعطيت بناءً عليها تراخيص التنقيب مثل حقول: “كاريش”، و”تامار”، و”تنين”، و”أران”، و”ليڤياثان”، و”داليت”، و”دلفين”، و”نوا”، و”ماري”. كما أنّ هناك مربع مستطيل صغير يحيط بحقل “أفروديت” التي تتشارك فيه قبرص و”إسرائيل”.
ولعلّ هذه الحدود “المتعرّجة” للمستطيلات المحيطة بحقول “الغاز الإسرائيلية” المكتشفة، على ما يُضيف النعماني، هي التي أوحت للسفير آموس هوكشتاين بدعوة لبنان إلى إعتماد حدود “متعرّجة” بين لبنان والعدو الإسرائيلي. وبمعنى آخر، إنّه يدعو إلى إكتشاف آبار الغاز في البداية، وبعد ذلك يتمّ رسم مستطيلاً متعرّجاً حولها، ومن ثمّ يتمّ التوزيع: بلوك للبنان، وبلوك للعدو الإسرائيلي، أو حسبما يتم الإتفاق عليه بتقاسم الموارد النفطية في حقول هذه البلوكات، أو أن يُصار الى تكليف الولايات المتحدة بهذه المهمة برضى الطرفين!!!
ولكن ماذا عن رسم البلوكات على الحدود البحرية المفترضة بين لبنان وفلسطين، يجيب السفير النعماني بأنّه بدلاً من المربّعات المتساوية الأحجام، يتبيّن أن “الخريطة الإسرائيلية” (المُرفقة)، وبشكل يدعو إلى الغرابة، تُظهر البلوكات 1، و2، و3، والتي تقع على الحدود البحرية الفاصلة مع لبنان، على شكل مثلّث، فهي ليست على شكل مربع على الإطلاق. وإذا ما جرى مطابقة هذه البلوكات الثلاثة، ووضعها فوق خريطة البلوكات اللبنانية، يتبيّن أنّها متناسقة مع جزء من المنطقة المتنازع عليها (بمساحة 860 كلم2 والمعروفة بـ “المثلّث البحري”)، أي مع المثلث المرسوم على “الخريطة الإسرائيلية” والذي يصل بين الناقورة، والخطين 1 (الذي تقدّمت به “إسرائيل” إلى الأمم المتحدة) والخط 23 (الذي تقدّم به لبنان إلى الأمم المتحدة في العام 2011 بموجب المرسوم 6433)، يعترف بوجود الخط 23. إذاً فإنّ هيئة دائرة النفط والغاز قد اعتبرت هذه المنطقة حالة خاصة، وخصّصت لها ترسيماً مختلفاً عن “البلوكات الإسرائيلية” كافة في المنطقة الإقتصادية الخالصة والتي تبلغ نحو 69 بلوكاً. كما أنّ رسم الخط 23 على “الخريطة الإسرائيلية” يُحاكي الرسم اللبناني من حيث تعرّجه قليلاً نحو صخرة “تخليت”، ثمّ يتوجّه بخط مستقيم إلى النقطة 23 (وقد تمّ رسم الخط 29 فوق “الخريطة الإسرائيلية” من أجل المقارنة وتبيان كيفية إختراق المطلب اللبناني ل “البلوكات الإسرائيلية” المعنية).
فكيف يمكن إذاً تفسير هذا “الترسيم الإسرائيلي”؟ يقول النعماني إنّه في حدّه الأدنى، يُعتبر ذلك إعترافاً إسرائيلياً ضمنياً بالخط 23 على خرائطه على الأقلّ. و”الإسرائيليون” غير مجبربن على رسم هذا الخط على خرائطهم على الإطلاق. ولا يمكن الإدّعاء بأنّ هذا الخط قد تقدّم به لبنان إلى الإمم المتحدة. فحتى ولو كان الخط لبنانياً، فإنّ رسمه على خريطة “وزارة الطاقة الإسرائيلية” لا يمكن مقاربته إلّا على أساس أنّ الوزارة رأت أنّ اللبنانيين قد استندوا إلى قواعد ثابتة في رسم هذا الخط القديم (وقد قام الجيش اللبناني بإستبدال هذا الخط وإعادة إعتماد الخط 29 بعد أن قام بنقل نقطة الإنطلاق من BP1 إلى رأس الناقورة كما تقتضي بذلك خريطة ونصوص إتفاقية “بوليه- نيوكومب” التي تعود الى العام 1923)، وكذلك بموجب إتفاقية الهدنة (1949) (والخريطة المرفقة بها والتي تمكّن الدكتورعصام خليفة من الإستحصال عليها من مصادر أجنبية). أمّا في حدّه الأقصى، فإنّ المثلث الموجود على “الخريطة الإسرائيلية” يعني إستعداداً للتنازل عن هذه البلوكات 1و2 و3 التي يعتبرها العدو الإسرائيلي من ضمن حقوقه السيادية، في حال نجح لبنان في تثبيت حقّه خلال المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية بينه وبين “الإسرائيلي”.
وفي السياق نفسه، يجد النعماني بأنّه لا بدّ من توجيه السؤال إلى الوسيط الأميركي هوكشتاين: لماذا استغرقت المفاوضات أكثر من 10 سنوات من المراوحة والمناورات واللفّ والدوران، إذا كان “الإسرائيليون” قد أخذوا في حسابهم الخط 23 منذ البدايات، والدليل وجوده على خرائطهم ؟! كما لا بدّ من سؤال المسؤولين اللبنانيين: إذا كانت خريطة “وزارة الطاقة الإسرائيلية” قد أدرجت منذ سنوات الخط 23 ضمن البلوكات المحدّدة لها، لماذا إذا يتردّد لبنان الرسمي في إعتماد الخط 29 كحدود نهائية لمنطقته الإقتصادية الخالصة؟!
المصدر: الديار